اتفاق تاريخي حول جبل طارق- نهاية المعاناة وبداية حقبة جديدة

المؤلف: د. محمد الروين08.22.2025
اتفاق تاريخي حول جبل طارق- نهاية المعاناة وبداية حقبة جديدة

منذ تسعة أعوام، اتخذت المملكة المتحدة قرارًا مصيريًا بالخروج من كنف الاتحاد الأوروبي. واليوم، وبعد مرور خمسة أعوام على إتمام هذا الانسحاب، المعروف بـ "بريكست"، توصلت إسبانيا، وبريطانيا، وبوساطة من الاتحاد الأوروبي، إلى اتفاق تاريخي حول قضية جبل طارق الشائكة. هذا الاتفاق يهدف إلى وضع حد لمعاناة يومية طال أمدها لآلاف العمال الإسبان وغيرهم، الذين يضطرون لعبور الحدود إلى "الصخرة" من أجل تأمين أرزاقهم.

إنها معاناة فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني الحديث. هذا الاتفاق، الذي أُبرم في شهر يونيو من عام 2025، يمثل نقطة تحول حاسمة في العلاقات المعقدة بين إسبانيا وبريطانيا، وبين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.

بموجب هذا الاتفاق الجديد، سيتم إلغاء ما يُعرف في إسبانيا بـ "الفيرخا"، أي الحدود التي طالما فصلت بين المنطقتين. سيتم رفع المراقبة المشددة عن حركة الأشخاص والبضائع، لتصبح "الفيرخا" مجرد ذكرى باهتة في ذاكرة سكان البلدات الحدودية الإسبانية، بعد أن كانت مصطلحًا راسخًا في لغتهم اليومية.

تجدر الإشارة إلى أنه في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر عام 2020، توصل الطرفان الإسباني والأوروبي إلى اتفاق مبدئي يضمن حرية حركة الأفراد والسلع بين إسبانيا وجبل طارق.

ومع ذلك، واجه هذا الاتفاق سلسلة من العقبات، بعضها ذو طبيعة سياسية، والبعض الآخر ذو طبيعة اقتصادية واجتماعية، بالإضافة إلى التحديات التقنية واللوجستية. لكن الأطراف المعنية أبدت إصرارًا بالغًا على تجاوز جميع الخلافات، مدفوعة بإرادة سياسية قوية، تُوّجت بالتوصل إلى هذا الاتفاق الذي وصفته جميع الأطراف المشاركة في المفاوضات بأنه "تاريخي".

وضع جبل طارق في منظور الأمم المتحدة

في نظر الأمم المتحدة، يُعتبر جبل طارق إقليمًا محتلًا من قِبل بريطانيا، التي تحتل أيضًا تسع مناطق أخرى موزعة جغرافيًا، وتقع في كل من المحيط الأطلسي ومنطقة الكاريبي من جهة، والمحيط الهادئ من جهة أخرى.

في بيان صادر عن الحكومة البريطانية عقب الاتفاق، أكد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ونظيره الإسباني بيدرو سانشيز أن هذا الاتفاق يمثل فرصة سانحة لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين، وصناعة مستقبل أكثر إشراقًا للجميع.

وبدوره، صرح وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي بأن الاتفاق بين بريطانيا وإسبانيا، وبين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، يضمن السيادة البريطانية على المنطقة، فضلاً عن الحفاظ على الوجود العسكري البريطاني فيها. في إشارة إلى القاعدة العسكرية البريطانية المتمركزة هناك، والتي كانت تشكل إحدى العقبات الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق نهائي.

وأشار بيان وزارة الخارجية البريطانية أيضًا إلى أن الاتفاق الحالي قد أوجد حلولًا عملية لمشكلات مزمنة استمرت لسنوات طويلة. وأكد البيان أن هذا الإنجاز تحقق بفضل جهود الحكومة المحلية في جبل طارق، وأن الاتفاق يصب في مصلحة السيادة البريطانية، ويدعم اقتصاد جبل طارق، ويتيح للشركات المحلية فرصًا للنمو المستدام على المدى الطويل.

من جهته، أكد وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس أن هذا الاتفاق يمثل بداية حقبة جديدة في تاريخ العلاقات الإسبانية البريطانية، ليس فقط في سياق إدارة الخلافات بين البلدين، وإنما أيضًا في كل ما يتعلق بالمجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

أما رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، فقد أكدت أن الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا سيؤدي إلى إلحاق جبل طارق بمنطقة شنغن وبالسوق الأوروبية المشتركة، وبالتالي بالمنظومة الجمركية الموحدة لدول الاتحاد الأوروبي. وأكدت فون ديرلاين في السياق ذاته على أهمية الاستقرار في المنطقة، وما يحمله ذلك من دلالات إيجابية على صعيد الأمن القانوني والتنمية والازدهار الإقليمي.

وتاريخيًا، تجدر الإشارة إلى أن الملك فيليبي الخامس، ملك مملكة آل بوربون في إسبانيا، قد تنازل عن جبل طارق لصالح التاج البريطاني بموجب معاهدة أوترخت لعام 1713، وذلك بهدف إقامة توازن قوى جديد يمنع أي طرف من الاستفراد بالقوة على مستوى أوروبا، مع كسر شوكة إسبانيا من خلال الحيلولة دون اتحاد فرنسا وإسبانيا تحت حكم واحد.

ويُذكر أيضًا أن جبل طارق هو أحد الأقاليم السبعة عشر التي تعتبرها الأمم المتحدة مناطق محتلة وغير مشمولة بالاستقلال، وذلك في إطار القانون الدولي حتى يومنا هذا.

ومنذ ذلك الحين، لم تتوانَ إسبانيا عن المطالبة باستعادة جبل طارق، وتذكير المجتمع الدولي في كل مناسبة بحقها التاريخي في ذلك، وذلك في إطار فعاليات الأمم المتحدة. سواء في عهد الحكومة الاشتراكية الأولى في تاريخ التحول الديمقراطي في إسبانيا، برئاسة فيليبي غونزاليس ماركيز، الذي نجح في حلحلة قضية الحدود بين إسبانيا وجبل طارق مع بريطانيا بعد فشل وزير خارجية حكومة فرانكو الدكتاتورية فرناندو ماريا كاستييا إي مايز في ذلك، أو في عهد الحكومة اليمينية بقيادة خوسيه ماريا أزنار لوبيز، الذي طرح موضوع السيادة المشتركة على الصخرة، أو حكومة الاشتراكي خوسيه لويس رودريغيز ساباثيرو، أو حكومة اليمين بزعامة ماريانو راخوي بري، أو حكومة اليساري بيدرو سانشيز بيريز كاستيخون الحالية.

وجدير بالذكر أن الضغط على بريطانيا قد ازداد بعد أن منحت بريطانيا جبل طارق وضع "مدينة" تتمتع بحكومتها المحلية وبرلمانها في عام 2022، وذلك باعتبارها مدينة ذات هوية تاريخية وخصوصيات ثقافية تضمن لها موقعها المتميز بين المدن البريطانية الأخرى في خريطة المملكة المتحدة.

وهذا الوضع الجديد مكن جبل طارق من الحصول على مجموعة من الحقوق والامتيازات، مثل تأسيس جامعة وكاتدرائية، بالإضافة إلى إدارة ومؤسسات محلية تلبي احتياجات المواطنين؛ وهو وضع سبق أن أعلنت عنه الملكة فيكتوريا في عام 1842، دون أن يتم تثبيته رسميًا.

مضمون الاتفاق

في تصريح لافت، اعتبر خوسيه مانويل ألباريس وزير الخارجية الإسباني أن هذا الاتفاق يمثل آخر حائط يسقط في أوروبا القارية، في إشارة إلى تعزيز الروابط السياسية والثقافية بين الدول المكونة للاتحاد الأوروبي ومنطقة شنغن، وهو ما يجعل من أوروبا قوة حقيقية قادرة على فرض رؤيتها الإستراتيجية في المنطقة.

إن الهدف المحوري لهذا الاتفاق هو تحقيق الرفاهية لشعبي المنطقتين، حيث ستعمل السلطات المعنية على إلغاء الحدود ورفع الرقابة عن حركة الأشخاص والبضائع بين إسبانيا وجبل طارق. وإلى جانب ذلك، سيسعى الاتفاق إلى تأمين منطقة شنغن للاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة الموحدة، بالإضافة إلى منظومة جمركية أوروبية موحدة تشمل جبل طارق. ويرى ألباريس أن توحيد المنظومة الضريبية بين الاتحاد الأوروبي وجبل طارق يضمن تنافسية عادلة.

وبعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ، سيصبح جبل طارق جزءًا لا يتجزأ من منطقة شنغن، وسيتمتع العمال، بمن فيهم الإسبان، بجميع الحقوق الاجتماعية المرتبطة بالتغطية الاجتماعية والصحية، بالإضافة إلى الحق في التقاعد، الذي كان يمثل إشكالية حقيقية قبل هذا الاتفاق. بمعنى آخر، سيضع هذا الاتفاق حدًا لمعاناة ما كان يعرف بـ "العمال الحدوديين"، أي العمال الذين يأتون من البلدات الإسبانية الواقعة على الحدود مع جبل طارق، وعلى رأسها بلدة لالينيا دي لا كونسبسيون، والجزيرة الخضراء، وسان روكي، ولوس باريوس، وطريفة.

هؤلاء العمال كانوا ملزمين بعبور الحدود يوميًا والعودة إلى بلداتهم الإسبانية في المساء. وبعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ، ستشرف السلطات الإسبانية وسلطات الاتحاد الأوروبي، بالتنسيق مع سلطات المملكة المتحدة والسلطات المحلية لجبل طارق، على جميع عمليات المراقبة الحدودية، سواء على مستوى جبل طارق أو على مستوى منطقة شنغن، وذلك في نقاط المراقبة في الميناء أو في مطار جبل طارق.

وفي السياق ذاته، تم إقرار مبدأ المساواة في الشروط في مجالات المساعدات الاجتماعية والمنظومة الضريبية والعمل والبيئة والتجارة والتنمية المحلية.

ويؤكد الطرفان على ضرورة التعاون والتنسيق في مجال مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال ومحاربة الجريمة المنظمة، وهو ما يتقاطع مع التحديات الأمنية والإستراتيجية التي تفرضها دول الساحل جنوب الصحراء.

والحقيقة أن هذه في مجملها هي مطالب سكان جبل طارق، الذين يعتمد ناتجهم المحلي الإجمالي بنسبة 25% على مضيق جبل طارق، وفقًا لتقرير أعدته الغرفة التجارية لجبل طارق.

إن العلاقة بين البلدات الإسبانية الحدودية وجبل طارق هي علاقة وثيقة وذات أهمية بالغة بالنسبة للطرفين، حيث إن الجزء الأكبر من اليد العاملة في جبل طارق يأتي من البلدات الإسبانية.

وهذا الوضع يفرض تحديات ورهانات كبيرة، تختلط فيها الأبعاد الإنسانية والسياسية والاجتماعية، والتي يهدف الاتفاق إلى تجاوزها، وبالتالي وضع حد للمعاناة اليومية لحوالي 15 ألف عامل، منهم حوالي 10 آلاف إسباني.

تحديات ورهانات الاتفاق

وقد وصف كل من فابيان بيكاردو، الوزير البريطاني الأول لجبل طارق ورئيس الحكومة المحلية، ونائب الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوروبية ماروس سيفكوفيتش، هذا الاتفاق بأنه "هام وتاريخي". وحسب تصريحات المسؤولين الإسبان، فإن إسبانيا ستشرف على مراقبة جوازات السفر سواء على مستوى الميناء أو على مستوى مطار جبل طارق.

إنها محطة تاريخية سيكون لها ما قبلها وما بعدها، وستنعكس بلا شك على الاستقرار والتعاون في المنطقة، حسب تصريح وزير الخارجية الإسباني في ندوة صحفية عُقدت عقب الاتفاق. وأكد الوزير أن جبل طارق سيصبح جزءًا لا يتجزأ من منطقة شنغن، وأن إسبانيا ستشرف، بعد دخول الاتفاق حيز التطبيق، على جميع عمليات الدخول والخروج.

لكن هذا الاتفاق سيطرح أيضًا جملة من التحديات. فقد صرح خوسيه خوان فرانكو رودريغيز، رئيس بلدية لالنيا دي لا كونسيبسيون، بأن البلدية التي يترأسها هي الأكثر تأثرًا بتداعيات هذا الاتفاق، مؤكدًا في الوقت ذاته أن هناك مجموعة من النقاط لم تؤخذ في الاعتبار أثناء عملية التفاوض، من بينها إمكانية نزوح شرائح واسعة من سكان البلدات الحدودية إلى جبل طارق.

وهو ما يعيد إلى الأذهان ما حدث بالضبط في عام 1969، فيما يشبه الهجرة الجماعية من البلدات الإسبانية إلى الصخرة، مع ما يرافق ذلك من مخاوف أخرى تتعلق بارتفاع أسعار السكن وتكلفة المعيشة في جبل طارق.

من جانب آخر، لا يمكن إغفال حقيقة أن الاتفاق بين إسبانيا وبريطانيا سيدفع المغرب إلى ممارسة المزيد من الضغوط على إسبانيا من أجل استعادة مدينتي سبتة ومليلية، وهو الذي لا يفوّت أية فرصة يراها مواتية للتذكير بمطالبه التاريخية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة